فصل: تفسير سورة والسماء ذات البروج:

مساءً 9 :7
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
29
الإثنين
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (13- 15):

{إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15)}
وقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ في أَهْلِهِ} يريدُ في الدنيا، {مَسْرُوراً} أي: تَمَلَّكَهُ ذلكَ لاَ يدرِي إلا السرورَ بأهلهِ دونَ معرفةِ ربه.
وقوله تعالى: {إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ} معناه: أن لن يرجِعَ إلى اللَّه مبعوثاً محشُوراً، قال ابن عباس: لم أعلم ما معنى {يَحُورَ}؛ حتى سَمِعْتُ امرأة أَعْرَابِيَّةً تَقُولُ لِبُنَيَّةٍ لَهَا: حُورِي؛ أي: ارجعي، * ص *: {بلى} إيجابٌ بَعْدَ النفي، أي: بلى؛ لَيَحُورَنَّ أي: ليرْجِعَنَّ، انتهى.

.تفسير الآيات (16- 25):

{فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآَنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)}
وقوله تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ بالشفق} لا زائِدةٌ وقيلَ: لا ردٌّ عَلى أقوالِ الكفار، و{الشفق} الحُمْرَةُ التي تَعْقُبُ غَيْبُوبَةَ الشمسِ مع البياضِ التابعِ لها في الأغلب، و{وَسَقَ} معناه: جُمِعَ وَضُمَّ ومنه الوَسْقُ أي: الأَصْوُعُ المجموعةُ، والليل يَسِق الحيوانَ جملة أي: يجمَعَها وَيَضُمُّها، وكذلك جميعُ المخلوقاتِ التي في الأرض والهواء من البحار والجبال والرياح وغير ذلك، واتساقُ القمر كمالُه وتمامُه بدراً، والمعنى امتلأَ من النور، وقرأ نافع وأبو عَمْرٍو وابن عامر: {لَتَرْكَبُنَّ} بضم الباءِ والمعنى: لتركبُنَّ الشدائِدَ: الموتَ والبعثَ والحسابَ حالاً بعد حالٍ، و{عن} تجيءُ بمعنى بعد كما يقال: ورثَ المجدَ كَابِراً عن كابرٍ، وقيلَ: غير هذا، وقرأ حمزة والكسائي وابن كثير: {لَتَرْكَبَنَّ} بفَتْحِ الباءِ على معنى أنتَ يا محمد، فقيلَ: المعنى حالاً بعد حالٍ من معالَجةِ الكفارِ، وقال ابن عباس: سماءً بعد سماءٍ في الإسراء، وقيل: هي عِدَةٌ بالنَّصْرِ أي لتركبَنَّ أمْرَ العربِ قَبِيلاً بعد قَبِيل؛ كما كان، وفي البخاري عن ابن عبَّاس: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ} حَالاً بَعْدَ حَالٍ؛ هَكَذَا قَالَ نِبِيُّكُمْ صلى الله عليه وسلم، انتهى، ثم قال تعالى: {فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}، أي: ما حجتُهم مع هذهِ البراهين الساطعةِ، و{يُوعُونَ} معناه: يَجْمَعُونَ من الأعمالِ والتكذيبِ كأنهم يجعلونَها أوعيةٍ، تقول وَعَيْتُ العلم، وأَوْعَيْتُ المتاع، و{مَمْنُونٍ} معناه: مقطوع.

.تفسير سورة والسماء ذات البروج:

وهي مكية بإجماع.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 3):

{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3)}
الجمهورُ: أنَّ والبروج هي المنازلُ التي عَرَفَتْهَا العربُ، وقد تقدم الكلامُ عليها، {واليوم الموعود}: هو يومُ القِيَامَةِ باتفاق؛ كما جاء في الحديث، وإنما اختلفَ الناسُ في الشاهِد والمشهودِ اختلافاً كثيراً، فقال ابن عباس: الشاهدُ: اللَّهُ والمشهودُ: يومُ القيامة، وقال الترمذيُّ: الشاهدُ: الملائكةُ الحفظةُ، والمشهود أي عليه: الناسُ، وقال أبو هريرةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم: الشاهدُ يوم الجمعةِ، والمشهودُ يومُ عرفة، * ت *: ولو صَحّ لوجبَ الوقوفُ عندَه.

.تفسير الآيات (4- 9):

{قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)}
وقوله تعالى: {قُتِلَ أصحاب الأخدود} معناه فَعَلَ اللَّه بهم ذلكَ؛ لأنَّهم أهل له؛ فهو على جهة الدعاءِ بحسَبِ البشر، لا أنّ اللَّه يدعُو على أَحَدٍ، وقيل عن ابن عباس: معناه لُعِنَ وهذا تفسيرٌ بالمعنى، وقال الثعلبي: قال ابن عباس: كل شيء في القرآن {قُتِلَ} فهو: لُعِنَ، انتهى، وقيلَ: هو إخبارٌ بأنّ النارَ قَتَلَتْهُم؛ قاله الربيع بن أنس، * ص *: وجوابُ القَسَمِ محذوفٌ أي: والسماءِ ذاتِ البروجِ لَتُبْعَثُنَّ، وقال المبردُ: الجوابُ: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ}، وقيل الجوابُ: {قُتِلَ} واللامُ محذوفةٌ أي: لَقُتِلَ، وإذا كانَ {قُتِلَ} هو الجوابُ فهو خَبَرٌ انتهى، وصَاحِبُ الأخدودِ: مذكورٌ في السِّيَرِ وغيرِها وحديثُه في مُسْلِمٍ مُطَوَّلٌ وهو مَلكٌ دَعَا المؤمنينَ باللَّهِ إلى الرجوعِ عن دينِهم إلى دينهِ، وخَدَّ لَهُمْ في الأرْضِ أخَادِيدَ طويلةً؛ وأضْرَمَ لهم ناراً وجَعَلَ يَطْرَحُ فيها من لم يرجعْ عن دينهِ؛ حتى جَاءَتْ امرأةٌ مَعِا صبيٌّ فَتَقَاعَسَتْ؛ فقال لها الطفل: يا أُمَّهْ؛ اصْبِرِي فِإنَّكِ عَلى الحق، فاقْتَحَمَتِ النارَ.
وقوله: {النار} بدلٌ من الأخدودِ وهو بدلُ اشتمالٍ، قال * ع *: وقال الربيع بن أنس وأبو إسحاق وأبو العالية: بعثَ اللَّهُ على أولئك المُؤْمِنينَ رِيحاً فَقَبَضَتْ أرواحَهم أو نحوَ هذا، وخَرَجَتِ النارُ فأحْرَقَتِ الكافرينَ الذينَ كانُوا على حَافَّتَيِ الأخْدُودِ؛ وعلى هذا يجيءُ {قُتِلَ} خبراً لاَ دُعاء.

.تفسير الآيات (10- 12):

{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12)}
وقوله تعالى: {إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات...} الآية، فَتَنُوهُمْ، أي: أحرقوهم، * ت *: قال الهروي: قولُه تعالى: {فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الحريق} أي: لهم عذابٌ لكفرِهم وعذابٌ بِإحْرَاقِهم المؤمنينَ، انتهى، قال * ع *: ومَنْ قَال: إنَّ هذه الآياتِ الأواخِرَ في قريشٍ جَعلَ الفِتنةَ الامتحانَ والتعذيبَ، ويقوِّي هذا التأويلَ بعضَ التقويةِ قولُه تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ}، لأنَّ هذا اللفظُ في قريشٍ أشْبَهُ منه في أولئك، والبطشُ: الأخذُ بقوةٍ.

.تفسير الآيات (13- 22):

{إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)}
وقوله: {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئ وَيُعِيدُ} قال الضحاك وابن زيد: معناه: يُبْدِئ الخلقَ بالإنْشَاءِ، ويُعيدُهم بالحَشْرِ، وقال ابن عباس ما معناه: إنَّ ذلكَ عامُّ في جميع الأشْياءِ، فهي عبارةٌ على أنَّه يفعلُ كلَّ شيءٍ، أي: يُبْدِئ كل ما يُبْدَأُ ويُعِيدُ كلَّ مَا يُعَادُ، وهذانِ قسمانِ يستوفيانِ جميعَ الأشياءِ، و{الجنود} الجمُوع، و{فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} في موضعِ خفضٍ على البدلِ من الجنودِ، ثم تركَ القولَ بحالِهِ، وأضْرَبَ عنه إلى الإخبارِ بأن هؤلاء الكفارَ بمحمدٍ وشرعِه؛ لا حجةَ لهم ولا برهانَ؛ بلْ هُو تكذيبٌ مُجرَّدٌ سببُه الحسَدُ، ثم تَوَعَّدَهم سبحانَه بقوله: {والله مِن وَرَائِهِمْ مُّحِيطٌ} أي: عذابُ اللَّهِ ونقمتُه مِن ورائهم، أي: يأتي بَعْدَ كفرِهم وعِصْيانهم، وقَرأ الجمهورُ: {في لوح محفوظٍ} بالخفضِ صفةً ل {لوح} وقرأ نافعٌ: {محفوظٌ} بالرفعِ، أي: محفوظ في القلوبِ لاَ يدركُه الخطأَ والتبديلُ.

.تفسير سورة والسماء والطارق:

وهي مكية بلا خلاف.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 4):

{وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4)}
أقسم اللَّهُ تعالى بالسماءِ المعروفةِ في قول الجمهور، وقِيل: السماءُ هنا هو المطرُ، {والطارق}: الذي يأتي ليلاً، ثم فسَّر تعالى هذا الطارقَ بأنَّه: {النجم الثاقب} واخْتُلِفَ في {النجم الثاقب} فقال الحسنُ بن أبي الحسن ما معناه؛ أنه اسمُ جنسٍ؛ لأنها كلَّها ثاقِبة، أي: ظاهرة الضوء، يقال: ثَقُبَ النجمُ إذا أضاء، وقال ابن زيد: أرادَ نَجماً مخصوصاً؛ وهو زُحَلُ، وقال ابن عباس: أراد الجَدْيَ، وقال ابن زيد أيضاً: هو الثُّرَيّا، وجَوابُ القسم في قوله: {إِن كُلُّ نَفْسٍ...} الآية، و{إنْ} هي المخففةُ من الثقيلةِ، واللامُ في {لَمَّا} لامُ التأكيدِ الداخلةِ على الخبرِ؛ هذا مذهبُ حُذَّاقِ البصريين، وقال الكوفيون {إنْ} بمعنى ما النافيةِ، واللامُ بمعنى إلا فالتقديرُ: ما كلُّ نفسٍ إلا عليها حافظٌ، ومعنى الآيةِ فيما قال قتادة وغيره: إنَّ على كل نفسٍ مكلَّفَةٍ حافظاً يُحْصِي أعمالَها ويُعِدُّهَا للجزاءِ عليها، وقال أبو أمامة قال النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير هذه الآية: «إنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ حَفَظَةً مِنَ اللَّهِ يَذُبُّونَ عَنْهَا كَمَا يُذَبُّ عَنْ قَصْعَةِ العَسَلِ الذُّبَابُ، وَلَوْ وُكِلَ المَرْءُ إلى نَفْسِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ لاخْتَطَفَتْهُ الشَّيَاطِينُ».

.تفسير الآيات (5- 7):

{فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7)}
وقوله تعالى: {فَلْيَنظُرِ الإنسان مِمَّ خُلِقَ} توقيفٌ لمنكرِي البعثِ على أصلِ الخِلْقَةِ الدالِّ على أن البعثَ جائزٌ ممكن، ثم بادَرَ اللفظَ إلى الجوابِ اقْتِضَاباً وإسْراعاً إلى إقامَةِ الحجة، فقال: {خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصلب والترائب} قال الحسن وغيره: معناه: من بينِ صلبِ كلِّ واحدٍ من الرجلِ والمرأةِ، وترائِبِه، وقال جماعةُ: من بينِ صلبِ الرجل وترائب المرأةِ والتَرِيبَةُ من الإنسان: ما بين التَّرْقُوةِ إلى الثدي، قال أبو عبيدة مُعَلَّقُ الحَلْيِ إلى الصَّدْرِ، وقيل غير هذا.

.تفسير الآيات (8- 17):

{إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)}
وقوله تعالى: {إِنَّهُ على رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} قال ابن عباس وقتادة: المعنى أن اللَّهَ عَلى ردِّ الإنسانِ حيًّا بعد موتهِ لقادرٌ، وهذا أظهر الأقوال هنا وأبينُها، و{دَافِقٍ} قال كثير من المفسرين: هو بمعنى مَدْفُوقٍ، والعاملُ في {يَوْمٍ} الرَّجْع من قولهِ: {على رَجْعِهِ}.
و{تبلى السرائر} معناه تُخْتَبَرُ وتكشَفُ بواطنُها، ورَوَى أبو الدرداءِ عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن السرائرَ التي يَبْتَلِيهَا اللَّه من العباد: التوحيدُ، والصلاةُ، والزكاةُ، والغُسْلُ من الجنَابةِ، قال * ع *: وهذهِ معظَمُ الأمرِ، وقال قتادة: الوجهُ في الآيةِ العمومُ في جميعِ السرائرِ، ونَقَلَ ابنُ العربي في أحكامِه عن ابن مسعود: أنَّ هذه المذكوراتِ مِنَ الصلاةِ والزكاةِ والوضوءِ والوديعةِ كلَّها أمَانَةٌ، قال: وأَشَدُّ ذلكَ الوديعةُ تَمْثُلُ له، أي: لمن خَانَها على هيئَتِها يوم أخَذَها فَتُرْمَى في قَعْر جهنمَ، فيقالُ له: أخْرِجْها، فيتبعُها فيجعلُها في عنقهِ فإذا أراد أن يخرجَ بهَا زَلَّتْ منه فيتبعُها؛ فهو كذلكَ دَهْرَ الداهرينَ، انتهى، * ت *: قال أبو عبيد الهروي: قوله تعالى: {يَوْمَ تبلى السرائر} الواحدةُ سَرِيرَةٌ وهي الأعمالُ التي أسرَّهَا العبادُ، انتهى، و{الرجع} المطرُ وماؤُه، وقال ابن عباس: الرجعُ: السحابُ فيه المطرُ، قال الحسنُ: لأنه يَرْجِعُ بالرزقِ كلَّ عامٍ، وقال غيرُه: لأنه يرجع إلى الأرض، و{الصدع} النباتُ؛ لأن الأرضَ تَتَصَدَّعُ عنْه، والضمير في {إِنَّهُ} للقرآن، و{فَصْلٌ} معناه: جَزْمٌ فَصَلَ الحقائِقَ مِنَ الأباطيلِ، و{الهَزْل} اللعِبُ الباطلُ، ثم أخبر تعالى عن قريش أنهم يَكِيدُونَ في أفعالِهم وأقوالِهم بالنبي عليه السلام، و{وَأَكِيدُ كَيْداً} وهذا على مَا مَرَّ من تسميةِ العُقُوبة باسْمِ الذنبِ، و{رُوَيْداً} معناه: قليلاً؛ قاله قتادة، وهذهِ حالُ هذهِ اللفظةِ؛ إنما تقدمَها شيءٌ تَصِفُه كقولك: سيراً رويداً، أو تقدمَها فعل يَعْملُ فيها كهذهِ، وأما إذا ابتدأتَ بها فقُلْتَ: رويداً يا فلان؛ فهي بمعنى الأمر بالتَمَاهُلِ، * ص *: {رُوَيْداً} قال أبو البقاء: نَعْتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، أي: إمْهَالاً رُوَيْداً، و{رويداً} تَصْغِيرُ رَوْدٍ وأنشَد أبو عُبَيْدَةَ: [البسيط]
يَمْشِي ولاَ تَكْلِمُ البَطْحَاءَ مِشْيَتُهُ ** كَأَنَّهُ ثَمِلٌ يَمْشِي على رَوْدِ

أي: على مَهْلٍ ورِفْقٍ، انتهى.

.تفسير سورة سبح اسم ربك:

وهي مكية في قول الجمهور.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 5):

{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5)}
{سَبِّحِ} في هذه الآية بمعنى: نَزِّه وقَدِّسْ وَقُلْ: جَلَّ سبحانَه عن النقائِص والغَيْرِ جميعاً، ورَوَى ابنُ عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية، قالَ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الأعلى»، وكان ابن مسعودِ وابنُ عمرَ وابنُ الزبيرِ يفعلون ذلك، ولما نَزَلَتْ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اجْعَلُوهَا في سُجُودِكُم»، وعن سلمةَ بنِ الأكوع قال: مَا سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَفْتِحُ دُعَاءً إلاَّ استفتحه ب «سُبْحَان رَبِّيَ الأعلى الوهَّاب» رواه الحاكم في المستدركِ، وقال: صحيحُ الإسنادِ، انتهى من سلاح المؤمن.
و{سُوًى} معناه: عَدَّلَ وأتْقَنَ.
وقوله: {فهدى} عامٌّ لوجوهِ الهداياتِ في الإنسانِ والحيوانِ، وقال الفراء: معناه هَدَى وأضَلَّ؛ والعمومُ في الآيةِ أصوبُ، و{المرعى}: النباتُ، والغُثَاء: مَا يَبِسَ وجَفَّ وتَحَطَّمَ من النباتِ؛ وهو الذي يحمله السيلُ، والأَحْوَى قيلَ هو الأَخْضَرُ الذي عليه سَوَادٌ من شدَّةِ الخُضْرَةِ والغَضَارة، فتقديرُ الآيةِ: الذي أخْرَجَ المَرْعى أحوَى أي أسْوَدَ من خضرتهِ وغَضَارَتِه فجعَله غُثَاءً عِنْدَ يُبْسِه ف {أحوى}: حالٌ، وقال ابن عباسٍ: المعنى: فجعله غُثَاءً أحْوَى أي أسْوَدَ؛ لأن الغُثَاءَ إذا قَدِمَ وأصَابَتْهُ الأمْطَارُ اسْوَدَّ وتَعَفَّنَ فَصَارَ أحوى، فهذَا صفةٌ.

.تفسير الآيات (6- 7):

{سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7)}
وقولُهُ تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى} قال الحسنُ وقتادة ومالك بن أنس: هذه الآيةُ في معنى قوله تعالى: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} [القيامة: 16] الآية، وَعَدَهُ اللَّه أنْ يُقْرِئَه وأخبرَه أنه لاَ يَنْسى نِسْياناً لا يكونُ بعدَه ذِكر، وقيل: بلِ المعنى: أنه أمره تعالى بأنْ لا يَنْسَى على معنى التَّثْبِيتِ والتأكيدِ، وقال الجنيد: معنى {لا تنسى} لاَ تَتْرُكِ العمَلَ بما تَضَمَّنَ مِنْ أمْرٍ ونهي.
وقوله تعالى: {إِلاَّ مَا شَاءَ الله} قال الحسنُ وغيرهُ: معناه: مما قَضَى اللَّهُ بِنَسْخِه ورَفْعِ تلاوتِه وحُكْمه، وقال ابن عباس: {إِلاَّ مَا شَاءَ الله}: أنْ يُنْسِيَكَهُ؛ لِيُسَنَّ بهِ؛ على نَحْوِ قولِه عليه الصَّلاةُ والسلام: «إنِّي لأنسى أوْ أنسى لأَسُنَّ» قَالَ * ع *: ونسيانُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ممتنعٌ فيما أُمِرَ بتبليغهِ؛ إذ هُو معصومٌ فإذا بَلغَهُ وَوَعَى عنه؛ فالنسيانُ جائِزٌ على أن يَتَذَكَّرَ بعدَ ذلك، أو على أنْ يَسُنَّ، أو عَلى النسخِ.

.تفسير الآيات (8- 13):

{وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13)}
وقوله تعالى: {وَنُيَسِّرُكَ لليسرى} معناه: نَذْهَبُ بك نحوَ الأمورِ المُسْتَحْسَنَةِ في دنياكَ وَأُخْرَاكَ من النَّصْرِ والظَفَرِ، ورِفعةِ الرسالةِ وعلو المنزلةِ يومَ القيامةِ، والرفعةِ في الجنة، ثم أمرَه تعالى بالتَّذكيرِ، قال بعضُ الحذَّاقِ: قوله تعالى: {إِن نَّفَعَتِ الذكرى} اعْتِرَاضٌ بَينَ الكلامينِ على جِهَةِ التوبِيخِ لقريشٍ، ثم أخبرَ تعالى أنّه سَيَذَّكَرُ مَنْ يَخْشَى اللَّهَ والدارَ الآخِرَةِ وهمُ العلماءُ والمؤمنونَ، كُلٌّ بقدْرِ ما وُفِّقَ له، ويَتَجَنَّبُ الذِكْرَى ونَفْعَها مَنْ سبقتْ له الشَقَاوَةُ.